إشكال صعوبة تحديد سبب تسمية العصر الحجري بهذا الاسم
والعصر الحجري لماذا سمي عصراً حجرياً؟! طبعاً المصطلح هذا له سبب, نقوله إجمالاً: لأن الاعتماد أو الآلة المستخدمة فيه هي الحجر, وهذا يدخلنا في متاهة أخرى! هل بالفعل الناس في هذه الأحقاب والآماد الطويلة التي يجعلها بعضهم مئات الألوف من السنين لم يعرفوا إلا الحجر فقط! ولم يعرفوا شيئاً آخر؟! ثم بعد ذلك الانتقال من عصر الحجر إلى عصر النحاس أو البرونز -وهو النحاس مع القصدير- يفسرون تاريخ الإنسان من خلال الأداة التي يستخدمها.بمعنى آخر: أننا في عصور ما قبل التاريخ لا نجد آثاراً مكتوبة لكننا نجد بقايا أدوات مستخدمة، هذه الأدوات المستخدمة عبارة عن بقايا حجارة كان الإنسان يستخدمها؛ حجارة مدببة مسننة إلى حد ما تدل على أن الإنسان عمل فيها شيئاً ما أو حاول أن يطور فيها بعض الأمور؛ لكي يستخدمها في أغراضه المعيشية.هناك اتجاه آخر في تحديد هذا -وهو اتجاه شائع في أوروبا و أمريكا أيضاً- ألا نعتمد على الأداة التي يستخدمها الإنسان في تقسيم العصور، إنما نعتمد على طريقة العيش أو الإنتاج الغذائي نفسه، فإذا عرفنا كيف كان الإنسان يأكل وكيف كان يشرب؟ فإن كان يعتمد على الصيد المجرد فمعنى ذلك: أنه يمكن أن يضرب الفريسة أو الطريدة بأي حجر أو بأي عصا يمسكها بيده أو بأي شيء, ولا يوجد دليل على أداة معينة لهذا الاستخدام. إذا وجد مثلاً أنه يستخدم النار معنى ذلك أنه عرف شيئاً من هذه الاستخدامات، وإذا وجدناه يزرع معنى ذلك: أنه عن طريق الحجر أو غيره استطاع أن يحفر الأرض وأن يضع فيها البذور ثم يزرع؛ فلذلك العصر الحجري عندهم أو عصر ما قبل التاريخ يُنظر إليه من الناحية الاقتصادية أو أسلوب المعيشة لا من حيث أداة المعيشة.والواقع أن كلا النظريتين تتجه بالإنسان اتجاهاً مادياً هابطاً جداً، بمعنى: أنك لا تستطيع أن تأخذ فكر الإنسان وعقيدة الإنسان وشعوره ونموه الحضاري إلا من خلال الأداة التي يستخدمها, وهذه أبعد شيء عن روح الإنسان وعقله وفكره, أو من خلال طريقته في الأكل أيضاً وهذا بعيد جداً عن المشاعر وعن الروح وعن القيم!بمعنى آخر: أن هؤلاء يستبعدون الإيمان بالروح، والإيمان بالفطرة، والإيمان بالحاجة إلى التدين، وبالحاجة إلى معرفة الله تبارك وتعالى، وما أعطاه الله تعالى وأودعه فيه من علم يستطيع به أن يرقى بفهمه إلى أن يكون أسمى وأعلى من أن يكون حيواناً يستخدم أداة أو ما أشبه ذلك، ومع هذا -مع الأسف الشديد- هذه النظرية الرائجة التي بناء على ما بعدها استطاع الإنسان -كما يقولون- أن يتقدم.فمثلاً: عندما نجد هنري برستد الكاتب المشهور، -مشهور جداً طبعاً عندنا في الشرق نتيجة ترجمات البعض لكتبه, منهم الدكتور أحمد فخري العالم المؤرخ المشهور ترجم كتابه انتصار الحضارة ، و انتصار الحضارة لـ بروستد أو قصة الحضارة لـ ديورانت وما أشبهها تركز كثيراً أو تبين مثل هذه القضايا. مثلاً: يقول بروستد في صفحة إحدى عشر عن الإنسان في هذه المرحلة: كان همجياً ولكنه أرقى قليلاً من الحيوانات التي حوله مهما كانت متقدمة, وإنه لم يكن يمتلك شيئاً غير يديه الفارغتين يستعملهما لحماية نفسه وإشباع جوعه وتأدية كل أغراضه.ولا شك -كما يقول- أنه كانت تعوزه القدرة على الحديث المنتظم، ولم يكن في مقدوره أن يشعل النار, ولم يكن هناك من يعلمه شيئاً من ذلك, وهكذا كان أقدم البشر مضطرين لأن يتعلموا كل شيء بأنفسهم عندما بدءوا في هذه الحالة, وكان سبيلهم إلى ذلك التجربة البطيئة والمجهود الطويل.نختم بفقره من كلامه حيث يقول: لقد مرت أجيال طويلة على هذا الإنسان, وكان في ذهنه الهمجي شيء من شعاع الذكاء, ولكنه لم يحقق شيئاً من هذه الاختراعات؛ بل لم يفكر أن في استطاعته أن يتمكن من إنتاجها.وبناء عليه فإنه في نظرهم اقتصر الإنسان على الأدوات الحادة، وأول ما استخدم الحجارة -لأنها في نظرهم سهلة متوفرة وقريبة منه فبدأ يستخدمها- وبدأ يفكر كيف يعيش ويتطور من خلال أدوات أخرى غير يديه الفارغتين, وكانت هذه الحجارة أقرب ما لديه في هذا الوجود.الحقيقة أن هناك مشكلة فكرية أشار إليها الدكتور محمد غلاب - وهو باحث وعالم كبير جداً في الجغرافيا, وفي التطور؛ لكنه مع الأسف فكره فكر منحرف؛ لكن يهمنا الآن أن نأخذ منه- إشكالية الدور الناشئ عن هذه النظرية، وهو الدور بمعناه المنطقي, يعني: أن يتوقف الشيء على الشيء, ويتوقف الآخر عليه بحيث لا ننتهي إلى نتيجة حاسمة في هذا الموضوع.يقول: مشكلتنا في عصر ما قبل التاريخ هو أن المقياس فيه هو الإنسان نفسه.بمعنى آخر: إذا كان لدينا إنسان فإن لدينا حضارة, أو إذا كان لدينا حضارة فإن لدينا إنساناً! إذا: من أين نبدأ؟ وكيف نعرف من الذي بدأ؟ وكيف بدأت الحضارة؟!فمثلاً: إذا أثبتنا أن حضارة ما موجودة في مكان معين فهذا يعني أن هناك بشراً، وهذا يبطل القول بأن قبل البشر أنواعاً كما يسمونها الإنسان غير العاقل أو القردة العليا أو ما أشبه ذلك أنشأت هذه الحضارة, وإذا قلنا هناك إنسان موجود فهل يمكن أن يكون الإنسان إلا ومعه الحضارة!فهنا نشأت إشكالية: هل هؤلاء البشر أسوياء؟! أو أننا نقول -كما على كلام بروستد الماضي-: همج لا يدركون شيئاً، ولم تبدأ المرحلة الإنسانية بعد، فمن تصفهم بأنهم لا يملكون إلا أيديهم الفارغة وهمج، ليسوا بشراً وإنما هم كما يقال: القردة العليا أو ما أشبه ذلك!دخلوا في هذه المتاهة فلم يستطيعوا أن يخرجوا منها, ولم يستطيعوا أن يحددوا اليقين, أو يجزموا بشيء في هذه القضايا التاريخية الخطيرة والمهمة.